يجب أن ينتهي خطاب الكراهية تجاه النساء

هل تكره جدران صنعاء النساء؟

نشرت هذه المادة مسبقاً على منصة درج 

 

 

“كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي حين شاهدت للمرة الأولى غرافيتي على جدران مدينة صنعاء تحمل عبارات تحض على كراهية النساء. لم أتخيل أن شوارع صنعاء أصبحت تحمل كل هذه العبارات التي تستهدف النساء. واليوم، أصبحت غير قادرة على تذكّر الرسومات التي سبقت تلك الكتابات، كل ما أتذكره أنها كانت تدعم أفكار السلام والتعايش”، تقول سمر (اسم مستعار – 32 سنة).

 

تضاعفَ مؤخراً شعور المرأة اليمنية بأنها مواطنة غير مرغوب فيها في الأماكن العامة وفي شوارع المدن التي تسكنها. موجة من التحريض العلني تستهدف المرأة التي أصبح وجودها يستفز المجتمع المصاب بحالة غضب دائمة وغير مبرّرة. 

 

هذا التحريض يأخذ أشكالاً متعددة، كفرض شروط صارمة على شكل اللباس وتحديد “المهن المناسبة” للمرأة، وتقييد حريتها في السفر والتنقل.  ووصل الأمر إلى حد وصفها بـ “مصدر الفتنة” وسبب “تأخّر النصر” ضمن خطابات كراهية مكتوبة ومرئية ومسموعة، يزداد انتشارها يومياً بعد آخر تحت شعار “مواجهة الحرب الناعمة” أحياناً أو “محاربة الفساد الأخلاقي” في أحيان أخرى.

شهدت صنعاء في فترات متفرّقة خلال العامين الماضيين، تغيّراً في الرسومات الغرافيتية للشوارع، إذ طُمستْ الجداريات التي تدعو الى السلام والتعايش، وبخاصة في شارع حدة الحيوي، واستبدلتْ بعبارات تستهدف لباس النساء اليمنيات، وحرياتهن وحياتهن الشخصية، وتدعو الى الوصاية الذكورية عليهن. كما استُحدثت أيضاً يافطات في الأماكن العامة والمقاهي والمتنزهات تحمل المضامين نفسها، وحملت بعضاً من اليافطات تذييل الجهات الرسمية، ما فُهم على أنه خطاب رسمي سلطوي قيد التنفيذ.


يقول صامد السامعي (30 عاماً)، وهو أحد الشبان الذين شاركوا في رسم بعض الجداريات الداعية الى السلام في صنعاء : “بمرور الوقت، تزيد جماعة أنصار الله (الحوثيون) من تقويض المجال العام بشكل ممنهج ومخيف، بل وصل الأمر حد طمس جداريات تناهض الحرب واستبدالها بعبارات قبيحة الشكل رجعية المضمون، تفرض وصاية على المرأة و تستهدفها باعتبارها جزءاً من الحرب الناعمة وسبباً في تأخير النصر. كيف سيكون مستقبل البلد مع هذا النهج القمعي العنيف؟”.

 

هذا التبنّي لخطاب العنف من سلطات تضع يدها على المجتمع، يعتبر منعطفاً خطيراً، في السياق اليمني، الذي لم تنل فيه النساء حقوقهن كاملة، حتى في أوقات السلم. اضطهدت النساء لعقود كثيرة، ووُضعت على كاهلها مسؤوليات تبدو في ظاهرها للحرص عليها، وفي باطنها الاستلاب ونزع الأهلية عنها

 

يستند هذا الخطاب الموجه ضد المرأة إلى غياب التنمية وعدم كفاءة الدولة في الوصول بخدماتها إلى الأرياف، والنسب العالية للجهل وتفشّي الأمية، حتى بين الذكور، ما يضع النساء أمام خيار تقبّل الكراهية على أنها أمر واقع، وتترتب على ذلك هشاشة كاملة لحاضرها ومستقبلها.

 

مؤشر القلق من هذا الأمر سببه أن هذا الخطاب يستهدف نسيجاً مجتمعياً كاملاً، كما أنه متدفق ومُستمر، وكأنه مسار منتظم لأيديولوجية تفتقر الى المنطق بحده الأدنى، أيديولوجيا تتبنى المفاهيم المشوّهة للتمييز بين أفراد المجتمع والمتعلقة بالعرق والدين والانتماء السياسي والنوع الاجتماعي، وتعمل على شيطنة المرأة والشك في “اكتمال آدميتها” والتحفيز الدائم لجعلها عدوة المجتمع. 

 

تحشد- هذه الأيديولوجية- كل إمكاناتها الدينية والعرفية للانتقاص من حقوق المرأة الأساسية والتأثير حتى على وجودها في الفضاء العام.

 

 

لا يوجد في القانون الدولي لحقوق الإنسان تعريف شامل لخطاب الكراهية، حتى تعريف الأمم المتحدة لعام 2019، يبتعد من كونه تعريفاً جامعاً مانعاً وينقصه الكثير من الإيضاح، إلا أنه وفي شكله الحالي، يشمل بشكل معقول كل الممارسات والخطابات السلطوية والدينية المسموعة والمقروءة تجاه المرأة  ودورها في المجتمع، ناهيك بتوافر السياق في اليمن، الذي يمكن عبره تحويل هذا الخطاب إلى عنف يطبق مباشرة على المرأة، إذ يكفي أن نقرأ في تقرير الأمم المتحدة الصادر لهذا العام أن “نحو 7.1 مليون من النساء في اليمن  يحتجن الى وصول عاجل الى الخدمات التي تقي وتعالج العنف القائم على النوع الاجتماعي”.

 

الواضح أن الاتفاقات  والمعاهدات لا تعني سلطة الأمر الواقع في اليمن،  سواء كنا نتحدث عن اتفاقية سيداو لعام 1948 التي وقّع عليها اليمن، أو حتى الدستور اليمني نفسه الذي ينص في المادة (6)  على أهمية العمل بمواثيق الأمم المتحدة. يذكر أيضاً أن اليمن حاول خلال فترة انعقاد مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014)، أن يفرض نسبة 30 في المئة كتمثيل للنساء في المنشآت والدوائر الحكومية، إلا أن هذا كله لم يكن كافياً أبداً لحماية النساء.

 

إلغاء حق الكوتا

صحيح أن القوانين المحلية في اليمن غير قادرة على إنصاف المرأة، لكن النزاع المسلح الحالي والذي اندلع في أيلول/ سبتمبر 2014، انقلب على كل مخرجات الحوار الوطني وخفّض من مستوى الحساسية تجاه وضع النساء، وألغى حق الكوتا الذي كان على طاولة النقاش، بل وصل الأمر إلى حد العنف الرمزي المفرط المتواري خفيةً في الممارسات الاجتماعية والأيديولوجية وما هو مقبول من سلوكيات وإجراءات، على الرغم من إجحافه المفرط بحقوق النساء كـاستخدام لفظ “شقائق للرجال”  في الدستور. 

 

لعب النزاع دوراً أساسياً في تحفيز هذا العنف وشرعنة مسلكه، فعلى سبيل المثال شكّل غياب المنظومة العدلية بشكلها المنصف والمستقل تهميشاً لدور الدستور اليمني الكافل حقوق النساء وحمايتهن، ومن ناحية أخرى غياب حرية الإعلام المستقل وتقييده، والذي من وظيفته الدفاع عن معالم الديموقراطية والمساواة والسلام الاجتماعي، والمحاولات المستمرة لاغتيال الصحافة المحايدة والواعية، والسيطرة على وسائل الإعلام كافة.

 

 كل ما سبق عناصر تجعل من تنفيذ الخطابات السياسية والتحريضية والقائمة على التمييز ضد النوع الاجتماعي، تتكاتف وتتضافر بلا رقابة أو محاسبة، وتجعل من اليمن بيئة خصبة لزراعة الكراهية وتأجيج العنف ضد النساء. 

 

لم تكتفِ أطراف النزاع بهذا التدخل الفج والمقصود في شأن النسيج الاجتماعي، بل أججت من خطاب الكراهية ضد النساء في المؤسسات الوظيفية والتعليمية وحتى القضائية، إذ حثّت على تقليص دور النساء في الحياة العامة وجرّمت من وجودهن فيها، ومن المحبط رؤية كيف أن سلوك الترهيب هذا، حدّ من كل محاولات النساء عيش حياتهن بشكل طبيعي، وعرّض كرامتهن للجرح والانتقاص، ذلك أن وظيفة خطاب الكراهية ضمن بيئة تُبيح تطبيقه تتكثف في إلحاق الأذى وتجريد النساء من حقوقهن أو إقصائهن تحت طائلة التهديد، وإثارة بغض المجتمع على كل ما له صلة بهن وبأدوارهن.

 

خطبة الجمعة… منبر لكراهية النساء

“اضطررت لتغطية وجهي بنقاب، لأن العسكرية التي تقف أمام بوابة دخول الجامعة تضايقني كل يوم بكلمات مهينة وسيئة، مضمونها أنني غير محترمة ولم يحسن أبي تربيتي، هذا لأني أرتدي أغطية رأس وعباءات ملونة. أنا لا أحب النقاب أبداً لأنه يضايقني ويحجب شخصيتي، أرتديه غصباً عني. أتمنى لو أن هناك من يقدر أن يوقف العساكر عند حدهم في الجامعات، لأننا نتعرض للكثير من الشتم ونظرات عدم الرضا، وهو سلوك شبه عام يتبناه أي شخص في الجامعة لديه سلطة”، تقول رحمة (اسم مستعار، 21 عاماً).

 

في اليمن اليوم، توسعت دائرة خطاب الكراهية، وانتقلت المضايقات من المؤسسات إلى الشوارع والمساجد، إذ بات حديث خطباء الجمعة عن النساء وطريقة لبسهن وأهمية وصاية الرجال عليهن، ومراقبة هواتفهن وإلقاء نظرة عليهن قبل مغادرة المنزل لضمان التزامهن باللبس الذي يجعل المجتمع المتعصب، راضياً إلى حد ما.

تعزّز خطبة الجمعة أيضاً، فكرة ارتباط الحرب بوجود النساء كخطيئة، فيتم وصمها بأنها تقف وراء ما تسمّى بـ(الحرب الناعمة) أو أن تصرفها وسلوكها سبب رئيسي في (تأجيل النصر على الأعداء). إن سماع الذكور والشباب المراهق والناشئة لمثل هذا التحريض بشكل مستمر، يبني في داخلهم ضغينة متفاقمة ضد النساء بما يلحق الضرر ببناء الأسرة وتضامنها. ومع مرور الوقت، يمكن رؤية الفجوة المتولّدة بين النساء وأسرهن، ما زاد من العنف المنزلي ووضع تحديات وقيوداً إضافية أمام انخراط النساء والفتيات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات التعليمية. 

تقول مها ( اسم مستعار – 34 سنة)، “أشعر بأن خطبة يوم الجمعة في المسجد تستهدفني أنا وجميع نساء الحي، أصبحتُ عدوة لغالبية شباب الحارة حتى وهم لا يعرفون من أنا ولكنهم يعرفون خطيب الجامع الذي يصف النساء بأنهن جزء من حرب ناعمة في محاضراتهِ باستمرار”.

 

ومع ازدياد وصول اليمنيين إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة السلطات القائمة شرعنة خطاب الكراهية والعنف ضد النساء، تفرض هذه الوسائل نفسها، كأدوات جديدة وفعّالة في ازدراء النساء والحط من مكانتهن في المجتمع. وشهدت هذه المنصات حملات قذف وشتم، بل استُخدمت للتشهير والتهديد والابتزاز، وصل بإحداهن إلى محاولة الانتحار على الهواء مباشرة، بإطلاق النار على نفسها.  

 

 يخصَّص في كل عام 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، تبدأت في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، إلا أنه ومع تعاضد أشكال العنف ضد المرأة اليمنية، ما زال الصراع طويلاً، ونذكر هنا، أنه في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر قُتلت امرأة يمنيّة قنصاً، بينما كانت في مزرعة أسرتها في الضالع جنوب اليمن، وكأنه لا مكان آمناً للمرأة حتى في أرض أسرتها.

أحدث الإصدارات